”مَقهى السما تَقول؟ لَم أسمع عنهُ قبل.. حسنًا فلنزره هذا المساء لعلهُ يُليق بنا“ قالت و هي مُتمسكةٌ بذراعي، الضياعُ يقتحمُ ملامحها.
مَقهى سما ذاتهُ الذي ذهبنا اليه كُل المساء، عادتنُا المُقدسة التي أَخلصنا إليها مُنذ بدء زواجنا.. مُنذ خمسةَ عشرَ عامًا.
التقيتُ بريتا بذلك المَقهى، جالسةٌ لوحدها. أذكرها تجلسُ هناك، أرى المقهى بتفاصيله، الحائط الأزرق، الموسيقى، صوت الكؤوس و صخب النساء.
كَيف للمرء ألا يذكر اللحظة التي أصبح فيها مُراهقًا بالحُب و بطيشه؟
لَم تكن ريتا أجملهن بل كانت أشدهم وضوحًا، حدثتني بعينيها و غازلتني بطيفها. لا تمتنعُ أن تُفصح عن هواها، لا تهتمُ إن رُفضت رغباتها.
و أنا على نقيضها مُبهمٌ مُرتبكٌ، مُثقلٌ بالخجل. لَم أكن بشبابي من الذين يَفرضون وجودهم، مَن يُغازلون النساء و يتلاعبون بقلوبهن. و لن أنكر إنني حَلمتُ بهذا الدور، و لكني مهما حلمتُ خَذلني خَجلي.
مَرَ الليل و غادرت ريتا المَقهى ذلك المساء. و أنا كعادتي حين أواجه قلبي، لَم أقل لها شيئًا.
طال الليل بعدها. غَرقتُ ندمًا و سهرتُ غاضبًا من جُبني. عينيها صرخت، ناجت ”حَدثني“ و على رَغمها ملأ الصمتُ وجودي. عَجزتُ عن النوم مُنتظرًا الصباحَ لأعود للمقهى.
انتظرتُ في المقهى اليوم بأكمله. أتى العابرون، أتوا جميعهم عَدا ريتا. أيقنتُ إني لَن أراها، أيقنتُ أنها لَن تسكن سوى بذاكرتي بعد الان.
و بهذا أصبحت ريتا فِكرة، رمزٌ. لا مُستقبلٌ يجمعنا.
حَتى لَعبت الأقدار بنا فتلاقينا. عادت ريتا و عاد المُستقبلُ بأيدينا، كُل الاحتمالات تَحت رحمتنا.
”و أخيرًا تُحدثني؟ أهو اللون ألاحمر أيجعلني أكثر جاذبية أم ماذا؟“ ساخرةٌ بين كلماتها. أَحببتُ جُرأتها، ضحكتها، و حتى سُخريتها. أحببتُ تلك المرأة التي ظهرت لي أكبر من الأشياء. أكبر من خوفي، من رغبتي، و من وحشتي.
مَضى لقائنا ألاول، و الثاني و حَتى بعد عَقد زواجنا، قد حَرصت ريتا أن نَلتقي دومًا و كأنها الليلةُ الأولى. بَقت تَتحدى كُل اموري، تُحارب خوفي و خجلي. نَسجت مِني رجلًا لا يميل، لا يتردد.
أحببتها بكل كياني، و أحبتني هي بذنوبي وأخطائي. آمنت بي رُغم وقوعي و حِين عَجزتُ عن مواجهةَ العالم كانت حَيثُ أراها تحتويني.
لَم نُرزق بالأبناء و البنات و لكننا رُزقنا بالحُب رُغم الاقدار. أنا و هي تمردنا على قسوة الحياةِ، خَلقنا عالمًا لا يعرفُ الشر.
و اليوم ريتا لا تَذكرُ المقهى، لا تَذكر رمز حُبنا! لا تَذكر قصتنا.
أضحكُ مُخففًا و مُنكرًا جدية الامر ”ريتا ما بالكِ تنسين؟ تجهزي... كما اعتدنا“ الرُعب يكاد يَخنقني.
مِن السهل أن نتجاهل المُصيبة حِين تكون على وشك الانفجار، عَساها تتجاهلنا أيضا. و كأننا إن نكرنا قدومها لن تنفجر و تقضي علينا. و أُقسم إني تجاهلت قدر ما استطعت و ما بيدي قوةٌ و لا رُجولة تتحمل فُقدان ريتا. يدي ترتجفُ بمجرد التفكير بأنها لن تنسى المقهى فقط، بل قد تنساني و ماضينا. أتدركون مَعنى أن تُنسى بَعد كُل الخلافات، الاعترافات، بعد كُل الذي كانَ؟
أين لي أن أذهب حِين أُنسى؟ أين تَذهب ريتا بعدما تَنسى؟
لَستُ أحمقًا لأنكر إحتمالية الخرف. لَم نعد شبابًا و قد ارتسمت الخطوط على وجهنا. لستُ أحمقًا إنما جبانًا، لا أتجرأ حَتى أن أُفكر أنها قد تمرُ بالخرف. لا أسمحُ لنفسي أن أنطقَ تلك الحروف. لَن أواجه اليوم، غدًا لعلي أو بعده.
تَجهزت، العقد الذي أهديتها في زفافنا لا يُفارق صَدرها. عَطرها ذاتهُ، العينان ذاتها… و لكن أين ريتا؟
جلسنا بمقعدنا الذي اعتدناه كُل السنين الماضية. سأواجه. لَن أهرب.
”ريتا أتشعرين بالتعب هذه ألايام؟“
”لا حبيبي لِمَ؟“
”أتذكرين الان أين نحن؟“
”بالطبع أذكر سامر! ما هذا السؤال؟ أتراني أمراةٌ عجوزة تَنسى أم ماذا؟“ مازحةٌ
” إنني أقلقُ عليكِ ريتا، مَن لي غيرك؟ “ تائهٌ بين تناقضتها، تراةً تعود و تارةً ترحل
” لا تقلق، بجوارك أنا. قلة نومك هذه تؤثر عليك“
أكاد ألا أنام. لعلها و أنا نائمٌ تقولُ شيئا! لعلها تقول إنها تَذكر كل شيء و أن الأيام ماضية لَم تكن سوى أثار تَعب و لكنها لا تقول شيئا. لا تقول شيئا يُطفئ ارتعابي.
طَلبت قائمة الطعام و كأنها تقرأها للمرة الأولى و مِن ثَم سألتني عَن اسم المقهى.
لا حيلةَ بيدي سوى أن أشعر كما شعرته الليلة التي فقدتُ بها ريتا. بأنها عادت فِكرة، عادت رمزٌ. بعيدةُ و غير عائدة.
الصمتُ يتلاعب بيننا، و الضياعُ يَتحدى كُل ماضينا. و بتلك اللحظة تجرأت فسألتها
” فلنفترض أنني و لسبب ما فقدت ذاكرتي، ماذا ستفعلين؟“
” بعيد الشر سامر، ما بالك اليوم؟“
” ماذا كُنتي ستفعلين؟“
”لا شيء لأن هذا لَن يحدث..لا أُحب أن أتحدث عن الامور هذه و أنت تدري“
”بلى أدري ريتا لكن إلى مَتى سنهرب عن كُل أمر يؤذي؟“
لَم تَرد علي. تلك عادتها، لا تَرد حين أُزعجها، لا تغضب، لا تنهار بل فقط تصمت. اليوم أنا من يَتحداها فأعاود أسأل
”أين نحن؟“
”نحن حَيث ترى سامر ألا يمكننا أن نأكل بصمت؟“ الغضب بدا عليها
”و ماذا أرى ريتا؟“ التيه قد اقتحم وجهها مرةَ أُخرى
لَم ترد فأُعاود أسألها، مُتماديًا و متأملًا
”لِم تُعاملني و كأنني طفلة؟“ تتهربُ من سؤالي
”أين إلتقينا ريتا؟“
” لا أريدُ أن أكل، فلنعد للمنزل“ الدموع تتراقص بعينيها
أقول اسمها و لا أراها أمامي. و من فرط خوفي تتساقط دموعي قبل أن أنطق شيئًا. أنا و هي و الدموع ثالثنا، الحُزن يتكلم بالنيابة عَنا- كُل الذي خلقناه يتلاشى، يموت. ريتا تحتضرُ و أنا وحدي.
بوسعي أن أخذها إلى طبيب. بوسعي و لا أُريد! ماذا لو تحول خوفي لحقيقة حين ينطقون بتشخيصها؟ لا أريد للكابوس هذا أن يكون واقعًا.
الاسبوع الذي أتى لَم نتكلم. غاضبةٌ هي مِن الذي حَدث و خائفُ أنا مِن تطور حالتها، فأتجنبها. أصبحت الرجل الذي كُنته قبلها، ضعيفٌ لا أقوى على شيء، هَشٌ أنكسرُ من كُل الاشياء.
و حِين رأيتها مُستلقيةٌ تُلاعب توم قِطُنا، حَدثتها
”أنتِ كُل ما أملك أتدرين؟ أما زلتِ غاضبة؟“ صوتي يرتجفُ حَنينًا
”أدري و لكن مِمَ غاضبة؟“ أبحثُ في عينها سواء كانت تُنكر خلافنا أم إنها لا تذكرهُ
”ريتا أعتذر لَم أقصد أن أتهجم عليك ذلك الاسبوع“
”سامر أكلُ شي عَلى ما يرام؟“ تبتسمُ ضائعة
”نعم، تعالي قد تأخر الوقت فلننم“ أضمها إلى صدري، عودي يا ريتا، عودي.
و بهذا أكون قد أعلنتُ استسلامي، سأمتُ من مُحاولاتي. الحزنُ مُمتلئ بأضلعي، لم يَبقى عندي ما يحتلهُ الأسى.
بمرور ألايام فَقدت الكثير مِن روحها، لا أذكر أخر مَرة مَزحت فيها أو ضحكت
خبئتها من العالم خوفًا عليها. هَجرنا عادتنا الوحيدة و نَسينا المَقهى بعد خلافنا. بدأت ريتا تَصمتُ كثيرًا، أحيانًا لَن أسمع صوتها لأيام. و حِين نتحدثُ تتلعثمُ بحروفها، تترددُ بأجوبتها.
ذكرياتنا مُرتسمةٌ حولنا، الصور المُعلقة على الحائط، لوحاتها و تلك الورود المُبعثرة. عطرها يقتحم كل ركنٍ ببيتنا و الادراج تحتضن رسائلنا و هدايانا. غضبي قَد سيطر علي و قُمت أُكسر صورنا و اللوحات، إنتقامًا من قَدرنا. أُمزق الرسائل و أصرخ ”ريتا ريتا“ و هي خائفةٌ أمامي ترتجفُ. لا تزال ذكرياتنا موجودةٌ في كل مكان، لا تزال هي في كل شيءٍ سواها!
أثورُ بكُل الذي كتمتهُ تلك الشهور و أبكي راكعًا ”أرجوكي ريتا عودي“ أهدأ قليلًا و أُعاود أنفجرُ مُدمرًا كل ما حولي. فقدت أعز ما لدي أمام عيني
عَسى لثأري أن يُعوضني
كَيف لأمرٍ هكذا يُهاجم ما يُكون الانسان؟ و إلى متى سأغرقُ بالنكران؟ خبئتُ ريتا بين جدران الغُرقة الأربعة، لَم أتجرأ أن أخذها إلى طبيب. لم أتجرأ أن أظلم ريتا فتتحول إلى حالة مرضية، إلى تشخيص لا أكثر. سيقولون لي خرف، سيقولون آلزهايمر، فليقولوا.. ما همني؟ ستبقى هي ريتا. أمرأة أكبرُ من أن تُشّخص
- لارا غاندي
ريتا ليست اسمًا عابرًا في نصك، بل رمزٌ للزمن حين يتوحش، وللحب حين يُختبر في أقسى صوره: النسيان.
ما كتبته يا لارا ليس حكاية حب، بل نداء وجودي: كيف نحب من بدأوا يغيبون عن خارطة ذاكرتهم؟ وكيف نثبت أننا وُجدنا حين يغيب عنّا شاهد وجودنا؟
سامر لم يكن حبيبًا فقط، بل كان الحارس الأخير لذاكرة ريتا.
شكرًا لأنك كتبت الألم بنقاء لا يزاحم، وسكبت الحنين دون استجداء. هذا النص يستحق أن يُخلّد.
ماذا نكون بعقول من نحب فقط نسخ من انفسنا السابقه ، قراءه اقل من خمس دقائق تركت لدي اثر مبهره انتي يا لارا .